فصل: الفصل الثالث في كيفية إدراك المعاني الجزئية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث في كيفية إدراك المعاني الجزئية:

كيفية إدراك كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إن حاسة البصر ليس يدرك شيئاً من المعاني المبصرة إلا في الجسم. والأجسام تجمع معاني كثيرة وتعرض فيها معان كثيرة. وحاسة البصر يدرك من الأجسام كثيراً من المعاني التي تكون فيها وكثيراُ من المعاني التي تعرض فيها. واللون هو أحد المعاني التي تكون في الأجسام، والضوء أحد المعاني التي تكون في الأجسام واحد المعاني التي تعرض في الأجسام. وحاسة البصر يدرك هذين المعنيين من الأجسام، ويدرك من الأجسام معاني أخر غير هذين المعنيين، كالشكل والوضع والعظم والحركة وغير ذلك من المعاني التي يأتي تفصيلها من بعد. ويدرك أيضاً تشابه الألوان واختلافها وتشابه الأضواء واختلافها. ويدرك أيضاً تشابه الأشكال والأوضاع والحركات وتشابه جميع المعاني الجزئية. ويدرك أيضاً تشابه الأشخاص واختلافها وتشابه الألوان واختلافها.
إلا أنه ليس إدراك حاسة البصر لجميع المعاني على صفة واحدة ولا إدراكها لكل واحد من المعاني بمجرد الحس. وذلك أن حاسة البصر إذا أدركت شخصين من الأشخاص في وقت واحد وكان الشخصان متشابهين في الصورة فإنها تدرك الشخصين وتدرك أنهما متشابهان. وتشابه صورتي الشخص ليس هو الصورتين أنفسهما ولا واحدة منهما.
وإذا كانت حاسة البصر تدرك الشخصين من الصورتين اللتين تحصلان في البصر للشخصين فهي تدرك تشابه الشخصين من تشابه الصورتين اللتين تحصلان في البصر للشخصين. وتشابه الصورتين اللتين تحصلان في البصر ليس هو الصورتين أنفسهما اللتين في البصر ولا واحدة منهما. وليس يحصل في البصر صورة ثالثة للشخصين يدرك الحس منها التشابه. وليس يحصل في البصر للشخصين غير الصورتين فقط. فليس إدراك حاسة البصر للتشابه من صورة ثالثة تحصل في البصر تخص التشابه.
وأيضاً فإن التشابه الصورتين هو اتفاقهما في معنى من المعاني وحصول ذلك المعنى في كل واحد من الصورتين. فليس يدرك تشابه الصورتين إلا من قياس إحداهما بالأخرى وإدراك المعنى الذي به يتشابهان في كل واحدة منهما. وإذا كانت حاسة البصر تدرك التشابه، ولم يكن في البصر صورة ثالثة يدرك منها التشابه، وكان التشابه ليس يدرك إلا من قياس إحدى الصورتين بالأخرى، فحاسة البصر إذن إنما تدرك تشابه الصورتين من قياس إحدى الصورتين اللتين تحصلان في البصر إحداهما بالأخرى.
وكذلك أيضاً يدرك حاسة البصر اختلاف الصورتين المختلفتين من قياس إحدى الصورتين بالأخرى.
فتشابه الصور واختلافها إنما يدركه حاسة البصر من قياس الصور التي تحصل في البصر بعضها ببعض.
وإذا كان ذلك كذلك فإدراك حاسة البصر لتشابه الصور واختلافها ليس بمجرد الحس وإنما هو من قياس الصور التي يدركها بمجرد الحس بعضها ببعض.
وأيضاً فإن البصر إذا أدرك لونين من جنس واحد وكان أحدهما أقوى من الأخر كأخضر زنجاري وأخضر فستقي، فإن الحاس يدرك أنهما أخضران ويدرك أن أحدهما أشد خضرة من الآخر ويفرق بين الخضرتين، فهو يدرك تشابههما في الخضرة ويدرك اختلافهما في القوة والضعف. وكذلك يفرق بين الحمرتين وبين الزرقتين وكل لونين من جنس واحد إذا كان أحدهما أقوى من الآخر.
والتفريق بين الخضرتين ليس هو نفس الإحساس بالخضرة، لأن الإحساس بالخضرة إنما هو من اخضرار البصر بالخضرة، والبصر بكلى الخضرتين يخضر، ومن اخضراره بكلتي الخضرتين يدرك الحاس أنهما من جنس واحد. فإدراكه أن إحدى الخضرتين أقوى من الأخر وإدراكه أنهما من جنس واحد هو تمييز التلون الذي يحصل في البصر لا نفس الإحساس بالتلون.
وكذلك إذا كان اللونان متشابهين في القوة وكانا من جنس واحد فالحاس يدرك اللونين ويدرك انهما من جنس واحد. والحاس يدرك اللونين ويدرك أنهما من جنس واحد ويدرك أنهما متشابهان في القوة.
وكذلك حال الأضواء عند حاسة البصر. فإن حاسة البصر يدرك الأضواء ويفرق بين الضوء القوي والضوء الضعيف ويدرك تشابه الأضواء في القوة والضعف.
فإدراك حاسة البصر لتشابه الألوان واختلافها وإدراكها لتشابه الأضواء واختلافها وإدراكها لتشابه تخطيط صور المبصرات وهيئاتها ولاختلافها واختلاف هيئاتها إنما هو بتمييزها وقياس بعضها إلى بعض لا بمجرد الحس.
وأيضاً فإن حاسة البصر ليس يدرك شفيف الأجسام المشفة إلا بالتمييز والقياس. وذلك أن الأحجار المشفة التي شفيفها يسير ليس يدرك البصر شفيفها إلا بعد أن يقابل بها الضوء وتستشف. فإذا أدرك الضوء من ورائها أدرك أنها مشفة. وكذلك كل جسم مشف ليس يدرك البصر شفيفه إلا بعد أن يدرك ما وراءه من الأجسام، أو يدرك الضوء من ورائه، ويدرك التمييز مع ذلك أن الذي يظهر من ورائه هو غير الجسم المشف، وليس يدرك الشفيف إن لم يدرك ما وراء الجسم المشف أو يدرك نفوذ الضوء فيه ويدرك التمييز مع ذلك أن الذي يظهر من وراء ذلك الجسم هو غير ذلك الجسم. وإدراك أن ما وراء الجسم المشف هو غير ذلك الجسم ليس هو إدراكاً بمجرد الحس وإنما هو إدراك بالاستدلال، فالشفيف ليس يدرك إلا بالاستدلال. وإذا كان ليس يدرك الشفيف إلا بالتمييز والقياس.
وأيضاً فإن الكتابة ليس تدرك إلا من تمييز صور الحروف وتأليفها وقياسها بأمثالها التي قد عرفها الكاتب من قبل ذلك وألفها. وكذلك كثير من المعاني المبصرة إذا تؤملت كيفية إدراكها وجدت ليس تدرك بمجرد الإحساس وليس تدرك إلا بالتمييز والقياس.
وإذا كان ذلك كذلك فليس جميع ما يدرك بحاسة البصر يدرك بمجرد الحس، بل كثير من المعاني المبصرة تدرك بالتمييز والقياس مع الإحساس بصورة المبصر، لا بمجرد الحس فقط.
وليس للبصر قوة للتمييز ولكن القوة المميزة هي التي تميز هذه المعاني. إلا أن تمييز القوة المميزة للمعاني المبصرة ليس يكون إلا بتوسط حاسة البصر.
وأيضاً فإن البصر يعرف المبصرات ويدرك كثيراً من المبصرات وكثيراً من المعاني المبصرة بالمعرفة، فيعرف الإنسان أنه إنسان، ويعرف الفرس أنه فرس، ويعرف زيداً بعينه أنه زيد إذا كان قد شاهده من قبل وكان ذاكراً لمشاهدته، ويعرف الحيوانات المألوفة، ويعرف النبات والثمار والأحجار والجمادات التي قد شاهدها من قيل وشاهد أمثالها، ويعرف الآلات وما يكثر استعماله وتكثر مشاهدته، ويعرف جميع المعاني المألوفة التي تكون في المبصرات التي تكثر مشاهدته لها.
وليس يدرك البصرة شيء من المبصرات إلا بالمعرفة. والمعرفة ليس هي إدراكاً بمجرد الإحساس، وذلك أن البصر ليس يعرف كل ما شاهده من قبل. وإذا أدرك البصر شخصاً من الأشخاص وغاب عنه مدة ثم شاهده من بعد ولم يكن ذاكراً لمشاهدته الأولة فليس يعرفه وإنما يعرف ما يعرفه إذا كان ذاكراً لمشاهدته من قبل. فلو كانت المعرفة هي إدراكاً بمجرد الإحساس لكان البصر إذا رأى شخصاً قد شاهده من قبل عرفه عند المشاهدة الثانية على تصاريف الأحوال. ولكن البصر ليس يعرف الشخص الذي قد شاهده من قبل إلا إذا كان ذاكراً لمشاهدته الأولة ولصورته التي أدركها في الحالة الأولى أو في المرات التي تكررت عليه تلك الصورة من قبل. وليس تكون المعرفة إلا بالذكر فالمعرفة إذن ليس هي إدراكاً بمجرد الإحساس.
والإدراك بالمعرفة هو ضرب من ضروب القياس. وذلك أن المعرفة هو إدراك تشابه الصورتين، أعني الصورة التي يدركها البصر من المبصرات في حال المعرفة والصورة التي أدركها من ذلك المبصر أو من أمثاله في الحالة الأولى أو في المرات التي تقدمت إن كان أدرك ذلك المبصر أو أمثاله مرات كثيرة. ولذلك ليس تكون المعرفة إلا بالتذكير لأنه إن لم تكن الصورة الأولة حاضرة للذكر لم يدرك تشابه الصورتين ولم يعرف البصر المبصر.
والمعرفة قد تكون بالشخص وقد تكون بالنوع، فالمعرفة بالشخص تكون من تشبيه صورة الشخص المبصر التي أدركها البصر في حال معرفة الشخص بصورته التي أدركها من قبل. والمعرفة بالنوع تكون من تشبيه صورة المبصر بصورة أمثاله من أشخاص نوعه التي أدركها البصر من قبل.
وإدراك التشابه هو إدراك بقياس، لنه إنما هو من قياس إحدى الصورتين بالأخرى. فالمعرفة إذن إنما تكون بضرب من ضروب القياس. إلا أن هذا القياس يتميز عن جميع المقاييس. وذلك أن المعرفة ليس تكون باستقراء جميع المعاني التي في الصورة، بل إنما تكون المعرفة بالأمارات. فإذا أدرك البصر معنى من المعاني التي في الصورة، وكان ذاكراً للصورة الأولة، فقد عرف الصورة. وليس كذلك جميع ما يدرك بالقياس، فإن كثيراً مما يدرك بالقياس ليس يدرك إلا بعد استقراء جميع المعاني التي في الشخص الذي يدرك بالقياس أو أكثرها.
وكذلك كثير من المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس ليس تدرك إلا بعد استقراء جميع المعاني التي فيها. وذلك أن الإنسان الكاتب إذا لحظ صورة ابجد مكتوبة في ورقة فإنه في حال ملاحظته لها قد أدرك أنه ابجد لمعرفته بالصورة. فمن إدراكه لتقدم الألف وتأخر الدال قد أدرك أنه أبجد، أو من إدراكه لتشكل جملة الصورة قد أدرك أنها ابجد. وكذلك إذا رأى اسم الله تعالى مكتوباً فإنه في حال ملاحظته قد أدرك أنه اسم الله تعالى بالمعرفة. وكذلك جميع الكلمات المشهورة التي يكثر تكررها على البصر إذا شاهدها الكاتب أدرك ما هي الكلمة في الحال بالمعرفة من غير حاجة إلى استقراء حروفها حرفاً حرفاً.
وليس كذلك إذا لحظ الكاتب كلمة غريبة مكتوبة وكانت كلمة لم ترد عليه قبل ذلك الوقت ولم يقرأ مثلها من قبل. وليس يدرك الكاتب الكلمة الغريبة التي لم ترد عليه من قبل إلا بعد أن يستقرئ حروفها حرفاً حرفاً ويميز معانيها، ومن بعد ذلك يدرك معنى الكلمة. وكذلك كل معنى يدرك بحاسة البصر إذا لم يكن قد ورد على البصر من قبل. فكل صورة لم تكن وردت على البصر من قبل ولم يرد عليه مثلها إذا أدركها البصر ليس يدرك البصر ما هي تلك الصورة أو ما هو ذلك المعنى، وليس يدرك أيضاً حقيقة تلك الصورة ولا حقيقة ذلك المعنى، إلا بعد أن يستقرئ جميع المعاني التي في تلك الصورة أو في ذلك المعنى أو كثيراً منها ويميز معانيها.
والصورة التي قد أدركها البصر من قبل أو قد أدرك أمثالها يدرك البصر ما هي تلك الصورة في حال إدراكه الصورة من إدراكه بعض المعاني التي في الصورة إذا كان ذاكراً لإدراكه لتلك الصورة أو أمثالها من قبل. فالذي يدرك بالمعرفة يدرك بالأمارة، وليس كل ما يدرك بالقياس يدرك بالأمارات. والإدراك بالمعرفة يتميز عن جميع ما يدرك بالقياس إذا لم يكن إدراكاً بالمعرفة، وهو يتميز بالسرعة لأنه إدراك بالأمارات. وأكثر المعاني المبصرة ليس تدرك إلا بالمعرفة، وليس تدرك مائية شيء من المبصرات ولا مائية شيء من المحسوسات بجميع الحواس إلا بالمعرفة.
والمعرفة ليس هي مجرد الإحساس. فحاسة البصر يدرك صور المبصرات من الصور التي ترد إلى البصر من ألوان المبصرات وأضوائها. وإدراكها للأضواء بما هي أضواء وللألوان بما هي ألوان يكون بمجرد الإحساس. ثم ما كان في الصور من المعاني قد أدركها البصر من قبل أو أدرك أمثالها، وهو ذاكر لما أدركه منها ومن أمثالها، فإنما يدركها في الحال بالمعرفة ومن الأمارات التي تكون في الصورة. ثم القوة المميزة تميز هذه الصورة فيدرك منها جميع المعاني التي تكون فيها من الترتيب والتخطيط والتشابه والاختلاف وجميع المعاني التي تكون في الصورة التي ليس يتم إدراكها بمجرد الحس ولا بالمعرفة.
فالمعاني التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بتمييز وقياس يزيد على مقاييس المعرفة. وأيضاً فإن أكثر المعاني المبصرة التي تدرك بالتمييز والقياس يدرك أكثرها في زمان في غاية الصغر، ولا يظهر في أكثر الأحوال أن إدراكها بتمييز وقياس لسرعة القياس الذي به تدرك هذه المعاني وسرعة إدراكها بالقياس. وذلك آن شكل الجسم وعظمه وشفيفه وما جرى هذا المجرى من المعاني التي في المبصرات تدرك في أكثر أحوالها إدراكاً في غاية السرعة ولا تدرك في الحال إذ إدراكها بقياس وتمييز إذا كان إدراكها في غاية السرعة. وسرعة إدراك هذه المعاني بالقياس إنما هو لظهور مقدماتها ولكثرة اعتياد القوة المميزة لتمييز هذه المعاني. فهي في حال ورود الصورة عليها قد أدركت جميع المعاني التي فيها. وإذا أدركت القوة المميزة جميع المعاني التي في الصورة فهي تتميز لها في حال إدراكها. وإذا تميزت لها جميع المعاني التي في الصورة فقد أدركت نتائج تلك المعاني في حال تمييزها.
وكذلك جميع المقاييس التي مقدماتها الكلية ظاهرة ومستقرة في النفس ليس تحتاج القوة المميزة في إدراك نتائجها إلى زمان مقتدر، بل في حال فهمها للمقدمة قد فهمت النتيجة. مثال ذلك لو طرق سمع سامع صحيح التمييز قول قائل هذا الشخص كاتب لكان ذلك السامع يدرك في الحال مع نفس فهمه لهذا اللفظ أن ذلك الشخص الذي سمع بصفته هو إنسان، وإن لم ير ذلك الشخص، ومن غير توقف ولا زمان مقتدر. وليس إدراكه لأن الشخص الكاتب إنسان إلا بالمقدمة الكلية وهي أن كل كاتب إنسان.
فمن استقرار هذه المقدمة في النفس وظهورها عند القوة المميزة صار السامع متى سمع بالمقدمة الجزئية التي هي هذا الشخص كاتب فهم في الحال أن ذلك الشخص إنسان. وكذلك إن قال قائل ما أمضى هذا السيف فإن السامع المميز إذا سمع هذا اللفظ فهم في الحال أن ذلك السيف المشار إليه حديد. وليس إدراكه بأن ذلك السيف حديد إلا بالمقدمة الكلية التي هي كل سيف ماض فهو حديد.
وكذلك جميع المقاييس التي مقدماتها ظاهرة ومستقرة في النفس وحاضرة للذكر تدرك القوة المميزة نتائجها في حال استماعها للمقدمة الجزئية وفي زمان في غاية الصغر، ولا يكون بين الآن الذي يقع فيه فهم المقدمة الجزئية وبين الآن الذي تدرك فيه القوة المميزة النتيجة زمان ظاهر المقدار. والعلة في ذلك أن القوة المميزة ليس تقيس بترتيب وتأليف وبتكرير المقدمات كما يكون في ترتيب القياس باللفظ. وذلك أن القياس المنتج ليس يكون قياساً في اللفظ إلا بترتيب المقدمات، ومثاله هذا الشخص كاتب وكل كاتب إنسان فهذا الشخص إنسان. فبهذا الترتيب صار اللفظ قياساً وأنتجت النتيجة. ولو لم يرتب اللفظ هذا الترتيب لما أنتجت النتيجة. وليس كذلك قياس القوة المميزة، لأن القوة المميزة تدرك النتيجة من غير حاجة إلى اللفظ ومن غير حاجة إلى تكرير المقدمة وترتيبها ومن غير حاجة إلى تكرير اللفظ وترتيبه.
وترتيب لفظ القياس هو صفة كيفية إدراك التمييز للنتيجة، وإدراك التمييز للنتيجة ليس يحتاج إلى نعت الكيفية وإلى ترتيب كيفية الإدراك. فالقوة المميزة إذا أدركت المقدمة الجزئية، وكانت ذاكرة للمقدمة الكلية، فإنها في حال فهمها للمقدمة الجزئية قد فهمت النتيجة، لا في زمان له قدر يعتد به، بل في أقل القليل من الزمان، وإذا كانت المقدمة الكلية ظاهرة ند القوة المميزة.
فالمعاني المبصرة التي تدرك بالقياس يكون إدراك أكثرها إدراكاً في غاية السرعة. ولا يظهر في أكثر الأحوال أن إدراكها بالقياس والتمييز لسرعة إدراكها، وسرعة إدراكها إنما هو لظهور مقدماتها وكثرة اعتياد القوة المميزة لتمييزها. وأيضاً فإن المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس والتمييز إذا تكرر إدراكها بالقياس وفهمت القوة المميزة معانيها، وصار إدراك القوة المميزة لها، إذا وردت عليها من بعد استقرار فهمها، بالمعرفة من غير حاجة إلى أن تستقرئ جميع المعاني التي فيها، بل تدركها بالأمارات، وتصير تلك النتيجة من جملة المعاني التي تدرك لا باستئناف التمييز والقياس واستقراء جميع المعاني التي فيها.
ومثال ذلك الكلمة الغريبة المكتوبة إذا وردت على الكاتب ولم تكن وردت عليه من قبل ولا ورد عليه مثلها. فليس يدركها إلا بعد أن يستقرئ حرفها حرفاً حرفاً. ثم إذا أدركها وفهمها وغابت عنه ثم أدركها ثانية وهو ذاكر لها، فإنه يدركها في الثاني أسرع مما أدركها في الأول. ثم إذا تكرر إدراكه لتلك الكلمة مرات كثيرة استقرت صورة تلك الكلمة في نفسه وصار إدراكه لها من بعد ذلك بالمعرفة، وفي حال ملاحظته لها قد أدركها من غير حاجة إلى استئناف تمييزها واستقراء جميع حروفها حرفاً حرفاً، بل يدركها في حال ملاحظته لها كما ذكرنا ويدرك صورة ابجد وكما يدرك الكلمات التي يعرفها.
وكذلك جميع المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس إذا تكرر إدراك البصر لها صار إدراكه لها بالمعرفة من غير استئناف القياس الذي به أدرك صحتها، وكذلك جميع المعاني التي تدرك بالقياس إذا كانت مقدماتها ظاهرة ونتائجها صادقة. فإنه إذا فهمت النفس النتيجة بالقياس واستقرت صحتها في الوهم ثم تكرر ذلك المعنى على النفس مرات كثيرة صارت النتيجة بمنزلة المقدمة الظاهرة فتصير متى وردت القضية على النفس حكم التمييز بالنتيجة من غير حاجة إلى استئناف القياس.
وكثير من المعاني التي ليس إدراك التمييز لصحتها إلا بالقياس يظن بها أنها علوم أول وأنها تدرك بفطرة العقل وليس إدراكها بقياس. ومثال ذلك آن الكل أعظم من الجزء يسمى علماً أول ويظن أنه يحكم بصحته بفطرة العقل وليس إدراك صحته بقياس لسرعة قبول الفهم ولن التمييز لا يشك فيه في وقت من الأوقات. والكل أعظم من الجزء ليس يدرك إلا بقياس ولا طريق إلى إدراك صحته إلا بالقياس لان التمييز لا طريق له إلى إدراك أن الكل أعظم من الجزء إلا بعد فهمه لمعنى الكل وفهمه لمعنى الجزء وفهمه لمعنى أعظم؛ لأنه لم يفهم التمييز معاني أجزاء اللفظ يفهم معنى جملة اللفظ. ومعنى الكل إنما هو الجملة ومعنى الجزء إنما هو البعض والأعظم إنما هو مضاف إلى غيره ومعنى الأعظم هو الذي يساوي الغير الذي هو مضاف إليه ببعضه ويزيد عليه بالباقي.
ومن انطباق معنى الأعظم في الزيادة على معنى الكل في الزيادة ظهر أن الكل أعظم من الجزء. فمن فهم القوة المميزة لمعنى الكل ولمعنى الجزء ولمعنى الأعظم، ومن إدراكها لاتفاق معنى الكل ومعنى الأعظم في الزيادة، أدركت أن الكل أعظم من الجزء. وإذا كان إدراكها لأن الكل أعظم من الجزء إنما هو بهذه الطريقة فإدراكها له إنما هو بقياس لا بفطرة العقل. والذي هو في فطرة العقل إنما هو إدراكه لاتفاق معنى الكل ومعنى الأعظم في الزيادة فقط. وهذا المعنى هو المقدمة الكلية التي أنتجت النتيجة، وفي حال ملاحظة العقر لهذا المعنى قد فهم النتيجة، فالكل أعظم من الجزء هو نتيجة قياس هذا المعنى مقدمته الكلية.
وترتيب هذا القياس في اللفظ هو أن الكل يزيد على الجزء، وكلما يزيد على غيره فهو أعظم منه، فالكل أعظم من الجزء. فالقياس يترتب في اللفظ على هذه الصفة. وإدراك القوة المميزة لهذا المعنى بالقياس إنما هو من إدراكها لأن معنى الكل ومعنى أعظم متفقان في الزيادة، وسرعة إدراكها للنتيجة إنما هو لأن المقدمة الكلية ظاهرة. فإدراك القوة المميزة لأن الكل أعظم من الجزء هو بقياس ولكن مقدمته الكلية ظاهرة عندها فهي تدرك نتيجتها في حال ورود المقدمة الجزئية وفي حال فهمها لها، والمقدمة الجزئية هو معنى الكل في زيادته على الجزء. ولاستقرار صدق هذا القياس في النفس وصحتها في الفهم وحضورها للذكر صارت متى وردت القضية قبلها العقل من غير استئناف قياس بل من معرفته بها فقط.
وكلما كان من هذا الجنس من العلوم فإنه يسمى علماً أول ويظن به أنه يدرك بمجرد العقل وليس يحتاج في إدراك صحته إلى قياس. والعلة في ذلك أنه يدرك بالبديهة في حال وروده على العقل، وهو إنما يدرك بالبديهة بالمعرفة لاستقرار صحته في النفس ولذكر النفس له ولصحته ولمعرفة النفس بالقضية عند ورودها، فقبول العقل لما وصفته من العلوم بالبديهة إنما هو بالمعرفة، وإدراك صحته إنما هو لاستقرار صحته في النفس، وصحته إنما استقرت في النفس بالقياس وبتمييز مقدماته وفهم معانيها.
فالمقاييس التي مقدماتها الكلية ظاهرة ومستقرة في النفس تدرك القوة المميزة نتائجها في حال فهمها للمقدمة الجزئية وفي زمان غير محسوس. ثم إذا تكرر القياس الذي بهذه الصفة واستقرت صحة النتيجة في النفس، صارت النتيجة بمنزلة المقدمة الظاهرة، وصارت المقدمة الجزئية بمنزلة المقدمة الكلية في الظهور، وصارت القوة المميزة متى وردت عليها المقدمة الجزئية أدركت النتيجة بالمعرفة من غير استئناف للقياس الأول الذي به أدركت تلك النتيجة ومن غير تمييز لكيفية الإدراك.
وعلى هذه الصفة يكون إدراك القوة المميزة لأكثر المعاني المدركة بالقياس من المعاني المبصرة في حال إدراكها للصورة وفي زمان غير محسوس. ثم إذا تكرر ذلك المعنى على البصر واستمر إدراكه له، واستقر فهم القوة المميزة لذلك المعنى بالمعرفة وفي حال ورود ذلك المعنى وبالأمارات، من غير استئناف للقياس الأول الذي يستقرأ فيه جميع المعاني التي في الصورة.
وأيضاً فإن المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس والمعاني التي تدرك بالمعرفة ليس تظهر في أكثر الأحوال كيفيات إدراكها في حال إدراكها، لأن إدراكها في غاية السرعة ولأن إدراك كيفية الإدراك إنما يكون بقياس ثان غير القياس الذي وقع به الإبصار.
والقوة المميزة ليس تستعمل هذا القياس الثاني في الوقت الذي تدرك فيه معنى من المعاني المبصرة، ولا تميز كيف أدركت ذلك المعنى، ولا تقدر على هذه الحال لسرعة إدراكها للمعاني المدركة بالمعرفة ولسرعة إدراكها للمعاني المدركة بالقياس الذي مقدماته ظاهرة ومستقرة في النفس. وكذلك جميع المعني المدركة بالمعرفة وجميع المعاني المدركة بالقياس الذي مقدماته ظاهرة ومستقرة في النفس وإدراكها في غاية السرعة ليس يظهر في حال إدراكها كيفية إدراكها، لأن كيفية الإدراك ليس يدرك إلا بقياس ثان وليس تستعمل القوة المميزة هذا القياس الثاني في حال إدراك المعاني التي إدراكها في غاية السرعة وبالمعرفة.
ولهذه العلة صار كثير من القضايا الصادقة التي تدرك بالمعرفة، وأصل استقرار صحتها بالقياس، لا يحس بكيفية إدراك صحتها في حال ورودها، لأن القوة المميزة إذا وردت عليها هذه المعاني فهي تحكم بصحتها بمعرفتها ولاستقرار صحتها عندها، وفي حال معرفتها ليس تبحث عن كيف كان استقرار صحتها في الأول، ولا تبحث عن كيفية إدراكها لصحتها في حال ورودها ومعرفتها، ولا متى استقرت صحتها عندها.
وأيضاً فإن القياس الثاني الذي به تدرك القوة المميزة كيفية إدراكها لما تدركه ليس هو قياساً في غاية السرعة بل يحتاج إلى فضل تأمل. لأن الإدراكات تختلف فمنها ما يكون بفطرة العقل، ومنها ما يكون بالمعرفة، ومنها ما يكون بفضل تمييز وتأمل. فإدراك كيفية الإدراك، وأي هذه الإدراكات هو، ليس يكون إلا بقياس بفضل تأمل وتمييز، لا قياساً في غاية السرعة. فالقوة المميزة إذا أدركت معنى من المعاني بالمعرفة أو بقياس في غاية السرعة فليس تدرك كيفية ذلك الإدراك في حال الإدراك. ولهذه العلة ليس يظهر في أكثر الأحوال كيفية إدراك المعاني المبصرة التي تدرك بالقياس في حال إدراكها.
وأيضاً فإن الإنسان مطبوع على التمييز والقياس، فهو يميز ويقيس الشيء بالشيء دائماَ بالطبع بغير تكلف ولا فكر. والإنسان إنما يحس بأنه يقيس إذا تكلف القياس واستعمل الفكر وتمحل المقدمات. فأما إذا لم يستعمل الفكر ولم يتمحل المقدمات ولم يتكلف القياس فليس يحس بأنه يقيس. فالمقاييس المألوفة التي مقدماتها ظاهرة وليس تحتاج إلى تكلف قياس هي في طبيعة الإنسان، فليس يحس الإنسان في حال ما يدركه من نتائجها أن إدراك تلك المعاني بقياس.
والذي يدل دليلاً ظاهراً على أن الإنسان مطبوع على القياس وأنه يقيس ولا يحس في الحال أنه يقيس، ويدرك كثيراً من الأشياء بالقياس ولا يحس في الحال أن إدراكه لها بالقياس، هو ما يظهر في الأطفال في أول نشأتهم: فإن الطفل في أول نشوه وعند أول تنبهه قد يدرك أشياء كثيرة مما يدركها الكامل التمييز ويفعل كثيراً من الأفعال بالتمييز ومن قياس الأشياء بعضها ببعض. فمن ذلك أن الطفل الذي ليس في غاية الطفولية ولا كامل التمييز إذا عرض عليه شيئان من جنس واحد، كتحفتين أو ثوبين أو شيئين من الأشياء التي ترغب فيها الأطفال، وخير بين ذينك الشيئين، وكان أحد ذينك الشيئين حسن الصورة وكان الآخر قبيح الصورة، فإنه يختار الحسن وينفي القبيح إذا كان منتبهاً ولم يكن في غاية الطفولية. وإذا خير أيضاً بين شيئين من جنس واحد، وكانا جميعاً حسنين، وكان أحدهما أحسن من الآخر، فربما اختار الأحسن، وإذا كان الآخر حسناً، إذا كان منتبهاً.
وليس اختيار الطفل للشيء الحسن على القبيح إلا بقياس أحدهما بالآخر. وإدراكه حسن الحسن وقبح القبيح وإيثاره الحسن على القبيح، وكذلك إذا اختار الأحسن على ما هو دونه في الحسن، فليس يختاره إلا بعد أن يقيس أحدهما بالآخر ويدرك صورة كل واحد منهما ويدرك زيادة حسن الحسن على ما هو دونه في الحسن ويؤثر الزائد الحسن. وليس إيثاره الأحسن إلا بالمقدمة الكلية، وهي أن الأحسن أخير والأخير أولى أن يختار. فهو يستعمل هذه المقدمة ولا يحس أنه قد استعملها.
فإذا تؤملت أفعال الأطفال وجد فيها كثير من المعاني التي لا تتم إلا بتمييز وقياس ما. وإذا كان ذلك كذلك فالطفل إذن يقيس ويميز. ولا خلاف ولا شبهة في آن الطفل لا يعرف معنى القياس ولا يعلم ما هو القياس، ولا يحس في حال ما يقيس انه يقيس، ولو أفهم أيضاً معنى القياس لم يفهمه. فإذا كان الطفل يقيس وهو لا يعلم ما القياس فالنفس الإنسانية إذن مطبوعة على القياس، وهي تقيس أبداً وتدرك جميع ما يدرك بالقياس من المعاني المحسوسة ومن المعاني الظاهرة في أكثر الأحوال بغير تكلف ولا تعمّل، ولا يحس الإنسان في الحال عند إدراك ما هذه صفته أن إدراكه إنما هو بقياس. إلا أن المعاني التي تدرك بالقياس على هذه الصفة إنما هي المعاني الظاهرة التي مقدماتها في غاية الظهور وتدرك باليسير من القياس وفي أقل القليل من الزمان. فإما المعاني التي مقدماتها ليست بكل الظاهرة ومقاييسها تحتاج إلى فضل تكلف، فإن الإنسان إذا أدركها ربما أحس في الحال إن إدراكها إنما هو بالقياس إذا كان صحيح التمييز وكان يعرف معنى القياس.
فقد تبين من جميع ما شرحناه أن المعاني التي تدرك بحاسة البصر منها ما يدرك بمجرد الإحساس ومنها ما يدرك بالمعرفة ومنها ما يدرك بتمييز وقياس يزيد على المعرفة، وان الذي يدرك بتمييز وقياس يزيد على المعرفة إذا تكرر إدراك البصر له واستقر فهمه في النفس صار إدراكه من بعد ذلك بالمعرفة، وان كيفية إدراك المعاني الجزئية المدركة بحاسة البصر ليس تظهر في اكثر الأحوال لسرعة ما تدرك بالمعرفة ولسرعة القياس الذي تدرك به المعاني المبصرة في أكثر الأحوال، ولأن القوة المميزة مطبوعة على هذه المقاييس وليس استعمالها لها بالفكر والتكلف بل بالطبع والعادة.
وأيضاً فإن الإنسان منذ طفوليته ومنذ مبدأ منشئه وعلى مرور الزمان يدرك المبصرات ويتكرر عليه إدراك المبصرات، فليس شيء من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إلا وقد تكرر إدراك البصر لها. فقد صارت جميع المعاني الجزئية التي تدرك بالقياس مفهومة عند القوة المميزة ومستقرة في النفس، فقد صارت القوة المميزة تدرك جميع المعاني الجزئية التي تتكرر في المبصرات بالمعرفة وبالعادة وليس تحتاج إلى استئناف قياس في إدراك شيء من المعاني الجزئية التي تتكرر في المبصرات.
وأيضاً فإن المعاني التي تتكرر في المبصرات وتدرك بالتمييز والقياس تستقر معانيها في النفس من حيث لا يحس الإنسان باستقرارها ولا يكون لاستقرارها ابتداء محسوس، لن الإنسان منذ طفوليته فيه بعض التمييز، وخاصة التمييز الذي تدرك به المعاني المحسوسة، فهو يدرك المعاني المحسوسة بالتمييز والقياس، ويكتسب معرفة المعاني المحسوسة، وتتكرر عليه المعاني المحسوسة على استمرار الزمان فتستقر معانيها في نفسه من حيث لا يحس باستقرارها، فيصير المعنى الجزئي الذي أدركه بالتمييز والقياس ثم استقر في نفسه بكثرة تكرره في المبصرات إذا ورد عليه أدركه في حال وروده بالمعرفة، ومع ذلك لا يحس بكيفية إدراكه، ولا يحس أيضاً بكيفية معرفته ولا كيف استقرت معرفة ذلك المعنى في نفسه.
فجميع المعاني الجزئية التي تدرك بقياس وتمييز وتتكرر في المبصرات قد أدركها الإنسان على مر الزمان وحصلت معانيها مستقرة في النفس وصار لكل معنى من المعاني الجزئية صورة كلية مستقرة في النفس، فهو يدرك هذه المعاني من المبصرات بالمعرفة وبالعادة ومن غير استئناف للتمييز والقياس الذي أدرك حقيقة ذلك المعنى، ومن غير إدراك لكيفية إدراكه في حال إدراكه، ومن غير إدراك لكيفية معرفته في حال معرفته، وليس يبقى شيء يحتاج إلى استئناف قياس وتمييز يزيد على المعرفة إلا المعاني الجزئية التي في الأشخاص الجزئية، كشكل في مبصر معين أو وضع مبصر معين أو عظم مبصر معين، أو قياس لون في مبصر معين بلون في مبصر معين، أو قياس صورة معينة إلى صورة معينة، وما جرى مجرى ذلك في الأشخاص الجزئية. وعلى هذه الصفات يكون إدراك جميع المعاني الجزئية التي تكون في المبصرات.
وإذ قد تبين جميع ذلك فإنا نشرع الآن في تبيين كيفيات إدراك كل واحد من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر وكيفيات المقاييس التي بها تكتسب القوة المميزة المعاني المدركة بحاسة البصر.
والمعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر كثيرة، إلا أنها تنقسم بالجملة إلى اثنين وعشرين قسما، وهي: الضوء واللون والبعد والوضع والتجسم والشكل والعظم والتفرق والاتصال والعدد والحركة والسكون والخشونة والملامسة والشفيف والكثافة والظل والظلمة والحسن والقبح والتشابه والاختلاف في جميع المعني الجزئية على انفرادها وفي جميع الصور المركبة من المعاني الجزئية. فهذه هي جميع المعاني التي تدرك بحاسة البصر، وإن كان في المعاني المبصرة شيء غير هذه المعاني فهو يدخل تحت بعض هذه، كالترتيب الذي يدخل تحت الوضع، وكالكتابة والنقوش التي تدخل تحت الشكل والترتيب، وكالاستقامة والانحناء والتحدب والتقعير التي هي من التشكل فهي تدخل تحت الشكل، وكالكثرة والقلة اللتين تدخلان تحت العدد، وكالتساوي والتفاضل اللذين يدخلان تحت التشابه والاختلاف، وكالضحك والبشر والطلاقة والعبوس والتقطيب اللواتي تدرك بحاسة البصر من تشكل صورة الوجه فهي تدخل من تحت الشكل: وكالبكاء فإنه يدرك من تحت تشكل الوجه مع حركة الدموع فهو يدخل تحت الشكل والحركة، وكالرطوبة واليبس اللذين يدخلان تحت الحركة والسكون، لأن الرطوبة وحركة بعضه قبل بعض، واليبس يدرك بالبصر ولكن ليس يدرك اليبس بالبصر إلا من تماسك الجسم اليابس وعدم حركة السيلان فيه، وكذلك كل معنى من المعاني الجزئية التي تدرك بحاسة البصر إذا ميزت كيفية إدراك البصر لها ظهر أنه يدخل تحت بعض الأقسام التي ذكرناها والمعاني التي فصلناها.
وجميع المعاني المبصرة إنما تدرك من الصور التي تحصل في البصر من صور ألوان المبصرات وأضوائها. وقد تبين أن صورة الضوء واللون اللذين في سطح المبصر تحصل في سطح الرطوبة الجليدية وتحصل مرتبة في هذا السطح كترتيبها في سطح المبصر، وان الصور تمتد من هذا السطح وتنفذ في جسم الجليدية وتنفذ في الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة، وتكون في حال امتدادها مرتبة كترتيبها في سطح الجليدية، وتصل إلى تجويف العصبة المشتركة وهي على هيئتها وترتيبها الذي هي عليه في سطح الجليدية والذي هي عليه في سطح المبصر، وأن الحاس الأخير إنما يدرك صورة المبصرات من الصور التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة. وقد تبين أن الإحساس ليس يتم إلا بإدراك الحاس الأخير لصور المبصرات. وإذا كان جميع ذلك كذلك فالتمييز والقياس يكون من القوة المميزة للمعاني التي تكون في صور المبصرات، ومعرفة الصور ومعرفة الأمارات التي في الصور، وجميع ما يدرك بالتمييز والقياس والمعرفة، إنما تكون من تمييز القوة المميزة للصور التي تحصل في تجويف العصبة المشتركة عند إدراك الحاس الأخير لها ومن معرفة الأمارات التي في هذه الصور والتي تدرك بهذه الصفة.
وأيضاً فإن الجسم الحاس الممتد من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، الذي هو الروح الباصرة، جميعه حساس، فالقوة الحساسة هي في جميع هذا الجسم. فإذا امتدت الصورة من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، فإن كل جزء من الجسم الحاس يحس بالصورة. فإذا حصلت الصورة في تجويف العصبة المشتركة أدركها الحاس الأخير، وعند ذلك يقع التمييز والقياس. فالقوة الحساسة تحس بصورة المبصر من جميع الجسم الحاس الممتد من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة، والقوة المميزة تميز المعاني التي في الصورة عند إدراك الحاس الأخير للصورة. فعلى هذه الصفة يكون إدراك القوة الحساسة والحاس الأخير والقوة المميزة لصور المبصرات. ويتبين من هذه الحال أن القوة الحساسة تحس بالموضع من العضو الحاس الذي تحصل فيه الصورة لأنها تحس بالصورة من الموضع الذي تحصل فيه الصورة.
وأيضاً فإنه قد تبين في الفصل الذي قبل هذا الفصل آن كل نقطة من سطح الجليدية تمتد الصورة منها على سمت واحد بعينه متصل على ما فيه من الانعطاف والانحناء إلى أن يصل إلى نقطة بعينها من الموضع الذي تحصل فيه الصورة من تجويف العصبة المشتركة. وإذا كانت كل نقطة من سطح الجليدية تمتد الصورة منها إلى نقطة بعينها من تجويف العصبة المشتركة، فالصورة التي تحصل في جزء من سطح الجليدية تمتد من ذلك الجزء إلى جزء بعينه من تجويف العصبة المشتركة، والمبصرات المختلفة التي يدركها البصر معاً في وقت واحد تمتد صورة كل واحد منها إلى موضع بعينه من تجويف العصبة المشتركة، وتحصل صور جميع تلك المبصرات في تجويف العصبة المشتركة معاً، ويكون ترتيب صورها في تجويف العصبة المشتركة بعضها عند بعض كترتيب المبصرات أنفسها التي يدركها البصر معاً بعضها عند بعض.
فإذا قابل البصر مبصراً من المبصرات فإن صور الضوء واللون اللذين في ذلك المبصر تحصل في سطح البصر، وتحصل في سطح الجليدية، وتمتد على السموت المخصوصة التي قدمنا تحديدها وهي على هيئتها وترتيبها، إلى أن تصل إلى تجويف العصبة المشتركة. وتدركها القوة الحساسة ند حصولها في جسم الجليدية وعند حصولها في جميع الجسم الحاس. ثم عند وصولها في تجويف العصبة المشتركة يدركها الحاس الأخير وتميز القوة المميزة جميع المعاني التي تكون فيها. وصورة المبصر المتلون التي تحصل في تجويف العصبة هي لون المبصر والضوء الذي في المبصر مرتبة كترتيب سطح المبصر. وصورة اللون وصورة الضوء إنما تصل إلى تجويف العصبة لأن الجسم الحاس الممتد في تجويف العصبة يتلون بصورة اللون ويضيء بصورة الضوء.
وتنتهي الصورة إلى تجويف العصبة المشتركة فيحصل الجزء من الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة الذي انتهت إليه صورة المبصر متلوناً بلون ذلك المبصر مضيئاً بالضوء الذي في ذلك المبصر. ذا لون واحد كان ذلك الجزء من الجسم الحاس ذا لون واحد، وإن كانت أجزاء المبصر مختلفة الألوان كانت أجزاء ذلك الجزء من الجسم الحاس الذي في تجويف العصبة المشتركة مختلفة الألوان. والحاس الأخير يدرك لون المبصر المتلون من التلون الذي يجده في ذلك الجزء، ويدرك الضوء الذي في المبصر من الإضاءة التي يجدها في ذلك الجزء. والقوة المميزة تدرك المعاني الجزئية التي في المبصر من تمييزها للمعاني التي في تلك الصورة التي هي ترتيب أجزاء الصورة وتشكل محيط الصورة وتشكل أجزاءها واختلاف الألوان والأوضاع والترتيبات التي في أجزاء تلك الصورة وتشابهها واختلافها وما جرى مجرى هذه المعاني من المعاني التي تكون في المبصرات.
وأيضاً فإن الضوء الذي يرد من المبصر المتلون إلى البصر ليس يرد منفرداً من اللون، وصورة اللون التي ترد من المبصر المتلون إلى البصر ليس ترد من الضوء. وليس ترد صورة الضوء وصورة اللون اللذين في المبصر المتلون إلا ممتزجتين، وليس يدركهما الحاس الأخير إلا ممتزجتين. ومع ذلك فإن الحاس يدرك أن المبصر مضيء وأن الضوء الذي يظهر في المبصر هو غير اللون وأنهما معنيان. وهذا الإدراك هو تمييز، والتمييز هو للقوة المميزة لا للقوة الحساسة، إلا أن هذا المعنى مع إدراك القوة المميزة له قد استقر في النفس وليس يحتاج إلى استئناف تمييز وقياس عند ورود كل صورة، بل كل صورة ممتزجة من الضوء واللون فهو مستقر في النفس أن الضوء الذي فيها هو غير اللون الذي فيها.
وإدراك القوة المميزة لأن الضوء العرضي الذي في المبصر المتلون غير اللون الذي فيه من أن المبصر الواحد بعينه قد تختلف عليه الأضواء ويزيد الضوء الذي فيه وينقص ولونه مع لون واحد، وإن كان يختلف إشراق اللون باختلاف الأضواء عليه فجنس اللون ليس يختلف. وأيضاً فإن الضوء العرضي الذي يحصل في المبصر ربما وصل إليه من منفذ أو من باب وإذا سد ذلك المنفذ أو أغلق ذلك الباب أظلم ذلك المبصر ولم يبق فيه شيء من الضوء. فمن إدراك القوة المميزة لاختلاف الأضواء على المبصرات ومن إدراكها لإضاءة المبصر في الأوقات وعدم الضوء منه في بعض الأوقات أدركت أن الألوان التي في المبصرات غير الأضواء التي تعرض فيها. ثم من تكرر هذا المعنى من المبصرات استقر في النفس استقراراً كلياً أن الألوان التي في المبصرات المتلونة غير الأضواء التي فيها.
فالصورة التي يدركها الحاس من المبصر المتلون هي صورة ممتزجة من صورة الضوء وصورة اللون اللذين في المبصر، فهو ضوء متلون، والقوة الميزة تدرك أن اللون الذي فيها هو غير الضوء الذي فيها، وهذا الإدراك هو إدراك بالمعرفة في حال ورود الصورة على الحاس لأنه قد استقر في النفس أن كل صورة ممتزجة من الضوء واللون فإن الضوء الذي فيها هو غير اللون الذي فيها.
وأول ما تدركه القوة المميزة من الصورة المتلونة من المعاني التي تخص الصورة هو مائية اللون. ومائية اللون إنما تدركها القوة المميزة بالمعرفة إذا كان اللون الذي في المبصر من الألوان المألوفة. فإدراك القوة المميزة لمائية اللون بالمعرفة إنما هو من قياسها صورة اللون بالصور التي أدركتها من قبل من اللون الأحمر وأدرك أنه أحمر فإنه إنما يدرك أنه أحمر لأنه يعرفه، ومعرفته به إنما هي من تشبيهه صورته بما قد أدركه من قبل من أمثاله.
ولو لم يكن البصر أدرك اللون الأحمر قبل إدراكه اللون الأحمر الأخير لما علم عند إدراك اللون الأحمر الأخير انه أحمر. فإذا كان اللون من الألوان المألوفة فإن البصر يدرك مائيته بالمعرفة، وإذا كان اللون من الألوان الغريبة ولم يكن البصر أدرك مثله من قبل فليس يدرك البصر مائيته. وإذا لم يدرك مائيته ولم يعرفه، فإنه يشبهه بأقرب الألوان التي يعرفها شبهاً به. فأصل إدراك اللون يكون بمجرد الحس، ثم إذا تكرر اللون على البصر صار إدراك البصر له أي لون هو بالمعرفة.
ومائية الضوء أيضاً إنما يدركها البصر بالمعرفة. فإن البصر يعرف ضوء الشمس ويفرق بينه وبين ضوء القمر وبين ضوء النار. وكذلك يعرف ضوء القمر ويعرف ضوء النار. فإدراك البصر لمائية كل واحد من هذه الأضواء إنما هو بالمعرفة.
وكيفية الضوء في القوة والضعف يدركها البصر بالتمييز والقياس ومن قياس صورة الضوء الذي يدركه في الحال بما تقدم من إدراكه له من صور الأضواء.
فالذي يدركه البصر بمجرد الحس هو الضوء بما هو ضوء واللون بما هو لون. ثم جميع ما يدرك بحاسة البصر من بعد الضوء واللون ليس يدرك بمجرد الحس بل يدرك بالتمييز والقياس والمعرفة مع الحس، لن جميع ما يدرك بالتمييز والقياس من المعاني المبصرة إنما يدرك من تمييز المعاني التي في الصورة المحسوسة. وكذلك ما يدرك بالمعرفة ليس يدرك إلا من إدراك الأمارات التي في الصورة المحسوسة. فالمعاني التي تدرك بالتمييز والقياس والمعرفة من المعاني المبصرة إنما تدرك مع الإحساس بالصورة.
والضوء الذي في الجسم المضيء من ذاته يدركه البصر على ما هو عليه وعلى انفراده من نفس الإحساس، والضوء واللون اللذان في الجسم المتلون المضيء بضوء عرضي يدركهما البصر معاً وممتزجتين ويدركهما بمجرد الإحساس. فالضوء الذاتي يدركه الحاس من إضاءة الجسم الحاس، واللون يدركه الحاس من تغير صورة الجسم الحاس وتلونه مع إدراكه لإضاءة الجسم الحاس بالضوء العرضي الممازج لذلك اللون. فالحاس يدرك من الجسم الحاس عند حصول صورة اللون فيه ضوءاً متلوناً، ويدركه عند حصول صورة الضوء الذاتي فيه ضوءاً مجرداً. وهذان المعنيان فقط هما اللذان يدركهما البصر بمجرد الإحساس.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك اللون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، أعني أن البصر يدرك اللون ويحس أنه لون ويعلم الناظر إليه أنه لون قبل أن يحس أي لون هو. وذلك انه في حال حصول الصورة في البصر قد تلون البصر، فإذا تلون البصر أحس أنه متلون، وإذا أحس بأنه متلون فقد أحس باللون. ثم من تمييز اللون وقياسه بالألوان التي قد عرفها البصر يدرك مائية اللون، فيكون إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائية اللون، ويكون إدراك مائية اللون بالمعرفة. والذي يدل على أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو، هو المبصرات التي ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمسني وما أشبه ذلك إذ كانت في موضع مغدر ولم يكن الموضع شديد الغدرة.
فإن البصر إذا أدرك اللون من هذه الألوان في الموضع المغدر فإنما يدركه لوناً مظلماً فقط ويحس أنه لون ولا يتميز له أي لون هو في أول إدراكه. فإذا كان الموضع ليس بشديد الغدرة فإن البصر إذا تأمل ذلك اللون فضل تأمل أدرك أي لون هو. وإن قوي الضوء في ذلك الموضع تميز للبصر أي لون هو ذلك اللون. فيتبين من هذا الاعتبار أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو.
والذي يدركه البصر من اللون في أول حصوله في البصر هو التلون. والتلون هو ظلمة ما، أو كالظل إذا كان اللون رقيقاً. فإن كان المبصر ذا ألوان مختلفة فإن أول ما يدرك البصر من صورته هو ظلمة أجزاؤها مختلفة الكيفية في القوة والضعف، وكالأظلال المختلفة في القوة والضعف. فأول ما يدركه البصر من صورة اللون هو تغير العضو الحاس وتلونه الذي هو ظلمة أو ما يجري مجرى الظلمة. ثم يميز الحاس ذلك التلون، فإذا كان المبصر مضيئاً تميز للبصر ذلك اللون وأدرك أمثالها دائماً فإنه يدرك مائيته في أقل القليل من الزمان وفي الآن الثاني الذي ليس بينه وبين الآن الأول الذي أدرك فيه اللون بما هو لون زمان محسوس. وإن كان من الألوان المشتبهة التي لم يدرك البصر أمثالها من قبل إلا يسيراً، أو كان في موضع مغدر ضعيف الضوء، فليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان محسوس.
وإن كان المبصر مظلماً وليس فيه إلا ضوء يسير، كالذي يدرك في الليل وفي الغلس وفي المواضع المغدرة الشديدة الغدرة، فإن الحاس إذا ميز اللون الذي يدركه في هذه المواضع لم يتميز له ولم يحصل له منه إلا ظلمة فقط. فيتبين من إدراك الألوان في المواضع المغدرة أن إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائيته، ويخفى أن إدراك مائية اللون يكون بعد التمييز ومن بعد إدراك الألوان المشرقة المألوفة في المواضع المضيئة.
ومما يدل أيضاً على أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أي لون هو الألوان الغريبة. فأن البصر إذا أدرك لوناً غريباً لم ير مثله من قبل، فإنه يدرك انه لون ومع ذلك لا يعلم أي لون هو، وإذا تأمله فضل تأمل شبهه بأقرب الألوان التي يعرفها شبهاً به.
فمن الاعتبار بأمثال المبصرات التي وصفناها يتبين بياناً واضحاً أن إدراك البصر للون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون، ويتبين أيضاً من هذه الاعتبارات أن إدراك مائية اللون إنما يكون بالتمييز وتشبيه اللون بما قد عرفه البصر من الألوان. وإذا كان ذلك كذلك فمائية اللون ليس تدرك إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. وكذلك الضوء ليس تدرك مائيته وليس تدرك كيفيته في القوة والضعف إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. فالذي يدركه البصر بمجرد الحس إنما هو اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء فقط، وما سوى ذلك ليس يدرك بمجرد الحسن وليس يدرك ما سوى هذين المعنيين إلا بالتمييز والقياس والمعرفة. والضوء واللون المضيء هو أول ما يدركه البصر من الصورة، ثم ما سوى ذلك يدرك من بعد إدراك اللون المضيء أو الضوء المجرد.
وأيضاً فإننا نقول إن إدراك مائية اللون ليست تكون إلا في زمان. وذلك أن إدراك مائية اللون ليس تكون إلا بالتمييز والتشبيه، والتمييز ليس يكون إلا في زمان، فإدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان. والذي يدل دليلاً ظاهراً يشهد به الحس على أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان ما يظهر في الدوامة عند حركتها. فإن الدوامة إذا كان فيها أصباغ مختلفة، وكانت تلك الأصباغ خطوطاً ممتدة من وسط سطحها الظاهر وما يلي عنقها إلى نهاية محيطها، ثم أديرت الدوامة بحركة شديدة فإنها تتحرك على الاستدارة حركة في غاية السرعة.
وفي حال حركتها إذا تأملها الناظر فإنه يدرك لوناً واحداً مخالفاً لجميع الألوان التي فيها كأنه مركب من جميع ألوان تلك الخطوط، ولا يدرك تخطيطها ولا اختلاف ألوانها، ويدرك مع ذلك كأنها ساكنة إذا كانت حركتها شديدة السرعة. وإذا كانت الدوامة تتحرك حركة سريعة فإن كل نقطة منها ليس تثبت في موضع واحد زماناً محسوساً وهي تقطع في أقل القليل من الزمان جميع الدائرة التي تدور عليها، فتحصل صورة النقطة في البصر على محيط دائرة في البصر في أقل القليل من الزمان.
فالبصر إنما يدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان من جميع محيط الدائرة التي تحصل في البصر، فيدرك لون تلك النقطة في أقل القليل من الزمان مستديراً. وكذلك جميع النقط التي في سطح الدوامة يدرك البصر لون كل واحد منها على جميع محيط الدائرة التي تتحرك عليها تلك النقطة في أقل القليل من الزمان. وجميع النقط التي أبعادها من المركز متساوية تتحرك عند استدارة الدوامة على محيط دائرة واحدة. فيعرض من ذلك أن يظهر لون كل نقطة من النقط التي أبعادها من المركز متساوية على محيط دائرة واحدة بعينها في أقل القليل من الزمان الذي هو زمان الدورة وهو زمان واحد بعينه، فتظهر ألوان جميع تلك النقط في جميع محيط تلك الدائرة ممتزجة ولا تتميز للبصر، وكذلك يدرك لون سطح الدوامة لوناً واحداً ممتزجاً من جميع الألوان التي في سطحها.
فلو كان البصر يدرك مائية اللون في آن واحد في كل آن من الآنات التي في الزمان الذي تتحرك فيه الدوامة لأدرك مائيات جميع الألوان التي في الدوامة متميزة في حال حركتها؛ لأنه إذا كان لا يحتاج في إدراك مائيتها إلى زمان فإنه يدرك مائياتها وهي متحركة في جزء من زمان الدورة كما يدرك مائياتها وهي ساكنة، لأن مائيات جميع ألوان المبصرات المألوفة في حال سكونها وفي حال حركتها هي واحدة لا تتغير. ففي كل آن من الآنات التي يتحرك فيها المبصر يكون لونه واحداً لا يتغير، وتكون مائيات ألوان المبصرات في الآن الواحد وفي الزمان الممتد واحدة لا تتغير، وإذا لم يكن الزمان متفاوت الطول.
فإذا كان البصر ليس يدرك الألوان التي تكون في سطح الدوامة إذا كانت الدوامة متحركة حركة سريعة، وهو يدركها إذا كانت الدوامة ساكنة وإذا كانت متحركة حركة بطيئة، فالبصر إذن ليس يدرك مائية اللون غلا إذا كان اللون ثابتاً في موضع واحد زماناً محسوساً، أو كان متحركاً في زمان محسوس مسافةً لا يؤثر مقدارها في وضع ذلك اللون من البصر تأثيراً متفاوتاً.
فيتبين من هذه الحال أن إدراك مائية اللون ليس يكون إلا في زمان، ويتبين من هذه الحال أن إدراك مائيات جميع المبصرات ليس يكون إلا في زمان، لأنه إذا كان اللون الذي يدرك بمجرد الحس ليس يدرك البصر مائيته إلا في زمان فما سوى ذلك من صور المبصرات ومن المعاني المبصرة التي تدرك بالتمييز والقياس أشد حاجة إلى الزمان، فإدراك مائيات المبصرات والإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز والقياس ليس يكون إلا في زمان، إلا أنه قد يكون ذلك في أكثر الأحوال في زمان يسير المقدار وفي زمان لا يظهر للناظر ظهوراً بيناً.
وأيضاً فإنا نقول إن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركه البصر إلا في زمان، اعني أن الآن الذي عنده يقع إدراك اللون بما هو لون أو إدراك الضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس فيه سطح البصر الهواء الحامل للصورة. وذلك أن اللون بما هو لون والضوء بما هو ضوء ليس يدركهما الحاس إلا بعد حصول الصورة في الجسم الحاس، وليس يدركهما الحاس الأخير غلا بعد وصول الصورة إلى تجويف العصبة المشتركة. ووصول الصورة إلى العصبة المشتركة إنما هو كوصول الضوء من المنافذ والثقوب التي يدخل منها الضوء إلى الأجسام المقابلة لتلك المنافذ وتلك الثقوب إذا كان الثقب مستتراً ثم رفع الساتر.
ووصل الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يكون إلا في زمان وإن كان خفياً عن الحس. لأن وصول الضوء من الثقب إلى الجسم المقابل للثقب ليس يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الضوء يحصل في الجزء من الهواء الذي يلي الثقب قبل أن يحصل في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يليه ثم في الجزء الذي يلي ذلك الجزء من الهواء إلى أن يصل إلى الجسم المقابل للثقب وعلى الجسم نفسه المقابل للثقب دفعة واحدة، ويكون جميع الهواء يقبل الضوء دفعة لا جزءاً منه بعد جزء.
فإن كان الهواء يقبل الضوء جزءاً بعد جزء فالضوء إنما يصل إلى الجسم المقابل للثقب بحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان. وإن كان الهواء يقبل الضوء دفعة واحدة، فإن حصول الضوء في الهواء بعد أن لم يكن فيه ضوء ليس يكون أيضاً إلا في زمان وإن خفي عن الحس. وذلك الثقب الذي يدخل منه الضوء إذا كان مستتراً، ثم رفع الساتر الذي في وجهه، فإن الآن الذي يزول فيه الساتر عن أول جزء من الثقب ويصير فيه الهواء الذي في الثقب منكشفاً لجزء من الضوء هو غير الآن الذي يحصل عنده الضوء في الهواء المماس لذلك الجزء من داخل الثقب وفي الهواء المتصل بذلك الهواء من داخل الثقب على تصاريف الأحوال. لأنه ليس يحصل الضوء في شيء من الهواء الذي في داخل الثقب المستتر عن الضوء إلا بعد أن ينكشف شيء من الثقب للضوء، وليس ينكشف شيء من الثقب في أقل من آن واحد، والآن ليس ينقسم، فليس يحصل شيء من الضوء في ذلك الثقب في الآن الذي انكشف فيه ما انكشف من الثقب، لأن الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد ليس ينكشف جزءاً بعد جزء، وليس يكون الذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد جزءاً له قدر، وإنما ينكشف منه في الآن الواحد نقطة لا مساحة لها أو خط لا عرض له، لأن ما له عرض وطول ليس ينكشف عنه الساتر إلا جزءاً بعد جزء وليس يكون انكشاف ما له عرض من الثقب إلا بالحركة، والحركة ليس تكون إلا في زمان، فالذي ينكشف من الثقب في الآن الواحد الذي لا ينقسم هو شيء لا عرض له، فليس ينكشف ذلك الشيء جزءاً بعد جزء.
وإذا كان ذلك كذلك فإن الذي ينكشف من الثقب في الآن الذي لا ينقسم هو نقطة لا مساحة لها. والخط الذي لا عرض له ليس هو جزءاً من الهواء، لأن أصغر الصغير من أجزاء الهواء ليس يكون إلا جسماً. فالنقطة التي لا مساحة لها أو الخط الذي لا عرض له هو أول شيء ينكشف من الثقب الذي ينكشف في الآن الذي لا ينقسم إنما هو نهاية جزء من أجزاء الهواء الذي في داخل الثقب لا جزء من الهواء. والنقطة التي لا مساحة لها لا تقبل الضوء، وكذلك الخط الذي لا عرض له، وليس يقبل الضوء إلا الأجسام. فإذا كانت النقطة التي لا مساحة لها والخط الذي لا عرض له لا يقبلان الضوء، فليس يحصل شيء من الضوء في الهواء الذي في داخل الثقب في الآن الذي ينكشف فيه أول شيء ينكشف من الثقب. فلآن إذن الذي هو أول آن تحصل عند الصورة في الهواء الذي في داخل الثقب أو في جزء منه غير الآن الذي انكشف فيه أول شيء انكشف من الثقب. وكل أنين فبينهما زمان، فليس يصير الضوء من الهواء الذي في خارج الثقب إلى الهواء الذي في داخل الثقب إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان خفي عن الحس جداً لسرعة قبول الهواء لصور الأضواء.
وكذلك إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، وماساً الهواء الحامل لصورة المبصر سطح البصر بعد أن لم يكن شيء من ذلك الهواء مماساً له، فإن الصورة ليس تصير من الهواء الحامل للصورة إلى داخل تجويف العصبة المشتركة إلا في زمان، إلا أن هذا الزمان ليس للحس طريق إلى إدراكه ولا اعتباره لصغره وغلظ الحس وقصور قوته عن إدراك ما هو في غاية الصغر. فهذا الزمان بالقياس إلى الحس بمنزلة الآن بالقياس إلى التمييز.
وأيضاً فإن العضو الحاس ليس يحس بالصور التي ترد إليه من المبصرات إلا بعد أن ينفعل بالصور، فليس يحس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء إلا بعد أن ينفعل بصورة اللون وبصورة الضوء. وانفعال العضو الحاس بصورة اللون وبصورة الضوء هو تغير ما، وليس يكون التغير إلا في زمان، فليس يدرك البصر اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان، وفي الزمان الذي تمتد فيه الصور من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة وفي ما يليه يكون إدراك القوة الحساسة التي في جميع الجسم الحاس للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء، لأن القوة الباصرة إنما هي في هذه المسافة وهي في جميع هذه المسافة.
وعند حصول الصورة في تجويف العصبة المشتركة يكون إدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء. فإدراك الحاس الأخير للون بما هو لون وللضوء بما هو ضوء يكون في الزمان الذي يلي الزمان الذي فيه تصل الصورة من سطح العضو الحاس إلى تجويف العصبة المشتركة.
وأيضاً فإن الآن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن يماس فيه الهواء الحامل للصورة أول نقطة يماسها من سطح البصر، إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو بعد فتح البصر أجفانه وهو مقابل للبصر بعد أن كانت أجفانه مطبقة. لأن البصر إذا قابل المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له، أو فتح أجفانه بعد أن كانت مطبقة، فإن أول ما يماس سطح البصر من الهواء الحامل لصورة ذلك المبصر هو نقطة واحدة أو خط لا عرض له، ثم جزءاً من بعد جزء إلى أن يصير الهواء الحامل للصورة مماساً لجزء من سطح البصر الذي تحصل فيه الصورة. وفي حالة مماسة النقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح البصر للنقطة التي لا قدر لها أو الخط الذي لا عرض له من سطح الهواء الحامل للصورة ليس يحصل شيء من صورة الضوء واللون في سطح البصر؛ لأن أقل القليل من السطح الذي يحصل فيه ضوء أو صورة لون ليس يكون إلا سطحاً. فالآن الذي يماس فيه نقطة من سطح البصر أول نقطة يماسها من الهواء الحامل للصورة ليس يحصل فيه شيء من الصورة في سطح البصر. والآن إذن الذي هو أول آن تحصل عنده الصورة في سطح البصر هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل للصورة سطح البصر إذا قابل البصر المبصر بعد أن لم يكن مقابلاً له أو فتح أجفانه بعد أن كانت أجفانه مغلقة.
وإذا كان ذلك كذلك فليس تحصل صورة اللون ولا الضوء في شيء من العضو الحاس ولا في سطح البصر إلا في زمان، وليس يدرك الحاس شيء من اللون ولا الضوء ما لم تحصل صورة اللون والضوء في شيء من العضو الحاس، فليس يدرك الحاس اللون بما هو لون ولا الضوء بما هو ضوء إلا في زمان، أعني أن الآن الذي يقع عنده الإحساس باللون بما هو لون وبالضوء بما هو ضوء هو غير الآن الذي هو أول آن ماس عنده الهواء الحامل لصورة سطح البصر.
فقد تبين من جميع ما ذكرنا كيف يدرك البصر الضوء بما هو ضوء، وكيف يدرك اللون بما هو لون، وكيف يدرك مائية اللون، وكيف يدرك مائية الضوء، وكيف يدرك كيفية الضوء.